أكد الباحث الديني العلوي الدكتور أحمد أديب أحمد في حديث خاص لوكالة مهر للأنباء بأن الاتهامات الموجهة للعلوية النصيرية بالغلو والتَّطرُّف الفكريِّ، وإهمال الظاهر والتمسك بالباطن، عارية عن الصحة مضيفاً: إن نهجنا العلويَّ النصيريَّ الخصيبيَّ يقوم على مبدأ الوسطيَّةِ الموسومِ بالصِّراطِ المستقيمِ في قوله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
وأوضح الباحث السوري إن الوسطيَّة أو الصراط المستقيم موقفٌ معتدلٌ بين موقفين متطرِّفينِ، وهما الإفراطُ والتَّفريطُ، مستشهداً بقولِ الإِمَامِ علي عليه السلام: "لاَ يُرَى الجَاهِلُ إِلاَّ مُفرِطًا أَو مُفَرِّطًا"، لذلك عَبَّرَتْ عنهما الآيةُ الكريمةُ بالسُّبُلِ المنهيِّ عن اتِّباعِها، وقوله مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "اليمينُ والشِّمالُ مَضَلَّةٌ، الطريقُ الوسطى هي الجَّادَّةُ"، وهو ما أشارَ إليه أفلاطون الحكيم بقولِهِ: "الفضيلةُ وسطٌ بينَ رَذيلَتين"، فالجاهلون هم الذين اعتقدوا بالشرائعِ فقط وأنكروا الحقائقَ مطلقًا، وظنُّوا أنَّهم لم يُكلَّفوا إلا بالصورِ الشرعيَّةِ الظاهرةِ، لقوله تعالى: "فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ"، فالاختلافُ يكونُ حسب زعمِ الجاهلين واقعاً من الأنبياء، وإليهم عائدٌ.
ورأى الدكتور أحمد إنَّ الأنبياءَ والرسلَ يقولونَ للعامةِ أقوالاً على سبيلِ مذاهبِهم الظاهرةِ، ويوضحونَ للخاصَّةِ الحقائقَ المعرفيَّةَ، لذلك نجدُ الأقوالَ المتضادَّةَ والملتبسَةَ المتشابهةَ ضدَّ الأقوالِ المحكَمَةِ الثابتةِ مضيفاً إلا أن ما يُثبِتُ الاعتقادَ بالحقائقِ هو التزامُنا أنَّ كافةَ الأنبياءِ والرُّسلِ لا يدينونَ إلا بدينٍ واحدٍ، ولا يريدونَ من حقائقِ شرائعهم وفرائضهم وكافَّةِ أقوالِهم إلا هذه الحقائق، فلو كان المرادُ بالشرائعِ ظاهرُها فقط فلماذا اختلَفَت أوامرُها ونواهيها وتحليلُها وتحريمُها.
وأشار الباحث الديني العلوي إلى إن القرآن يؤكدُ حقيقةَ ما وَصَّى به تعالى الأنبياءَ والرسلَ من علمِ الحقائقِ لا علمِ الشرائعِ، لأنَّ علمَ الشَّرائعِ فيه خلافٌ وتفرقةٌ، أمَّا علمُ الحقائقِ فهو الدينُ القيِّمُ الثابتُ قولاً وفعلاً مستشهداً بقوله تعالى: "وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً"، وقوله تعالى: "وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً"، وقوله تعالى: "لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ". ومثلُ ذلك ما وردَ في الإنجيلِ عن سيدنا المسيح عليه السلام: "يغلطُ مَن يجعلُ اللهَ خاضعاً للشريعةِ كما أنه هو نفسُهُ خاضعٌ لها من حيث هو إنسان".
ونوه الدكتور أحمد أديب أحمد إلى إنه ليس بين الكتبِ السَّماويَّةِ المنـزلةِ والأنبياءِ والرُّسلِ تفرقةٌ ولا اختلاف، لأنهم على دينٍ واحدٍ هو علمُ الحقائقِ الذي لا يختلفُ ولا يتغيَّرُ، بل الاختلافُ من جهةِ علومِ الظاهرِ التَّشريعيَّةِ فقط، فالشرائعُ الظاهرةُ هي المتحوِّلةُ، أي لا خلافَ بالتنـزيلِ بل بالتأويلِ. وقد حصلَ الاختلافُ في التأويلِ عندما انحرفَ أصحابُ علمِ الشرائعِ عن الحقائقِ المحكَمَةِ، وتعلَّقوا بالاعتقادِ بالمتشابِهِ، فتناقَضَتْ أقوالُهم، وزاغوا عن الحقِّ، فأزاغَ اللهُ قلوبَهم عدلاً منه تعالى كما أخبرَ عنهم في قوله: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"، فالخسرانُ المبينُ لأصحابِ علمِ الشرائعِ الذين يتَّبعونَ المتشابهاتِ ويتركونَ المحكماتِ، لقوله تعالى: "هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ"، فالمتشابهُ كمثالٍ لعلمِ الشرائعِ ليس للاعتقادِ والتَّديُّنِ، ودليلُ نفي الاعتقادِ بعلمِ الشرائعِ حقيقةً هو قوله تعالى: "وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا"، إنَّما الاعتقادُ بالمحكمِ كمثالٍ لعلمِ الحقائقِ في قوله تعالى: "وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا".
وعلق الباحث في الشؤون العلوية على ما يقال حول العلويين عن عدم إقامة الشريعة الظاهرة وتمسكهم بالمعتقدات الباطنية بأن هذا كلامٌ غيرُ دقيق مؤكداً إن العلويين نصيريين يمارسون الشريعةَ ويعقلون الحقيقة، لكنَّ البعض لم يفهم ما هو معنى رفعِ التَّكليفِ، وظَنَّهُ إهمالاً، منوهاً إن اللهُ لم يفرضْ على المؤمنينَ العارفينَ التَّكليفَ بالاعتقادِ بالشَّرائعِ الظاهرةِ، بل رَفَعَها عنهم تكليفاً لأنَّ التَّكليفَ الظَّاهرَ ليسَ غايةً، وإنما هو وسيلةٌ وَدِرعُ وقايةٍ، وبقيت الفرائضُ فرائضاً مُلزِمةً لنا، فالحشويَّةُ والمقصِّرةُ يَحملونَ على الاعتقادِ بعلمِ الشرائعِ المَحضِ، ويتمسَّكونَ بحرفيَّةِ النَّصِّ ويرفضونَ علمَ الحقائقِ، فهم من الذين وصفهم تعالى بقوله: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" لأنَّ السَّرابَ مَثَلٌ على الاعتقادِ بعلمِ الشرائعِ المحضِ، فظلموا أنفسَهم وكانوا كما قال تعالى: "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ"، لأنَّ التبديلَ الحاصلَ في علمِ التَّشريعِ خصَّ به الظالمين فقط، إذ لم تقل الآيةُ: "فَبَدَّلَ الَّذِينَ آمنوا"، وهؤلاء هم الذين غَرَّهُمْ علمُ الشرائعِ الظاهرِ المحضِ.
وختم الدكتور أحمد قائلاً: لا يجوزُ للعاقلِ اللبيبِ الخبيرِ في نهجنا العلويِّ النصيريِّ الخصيبيِّ أن يجعلَ المثلَ حقيقةً للممثولِ، فالخلافُ ليس حول الفرائضِ "كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد" وغيرها، بل حول تأويلِ أصحابِ علمِ الشرائعِ الحشويينَ والمقصِّرينَ لهذهِ العباداتِ، فالحقُّ ما أتى به الأنبياءُ والرُّسلُ وأهلُ العصمةِ من الحقائقِ التي هي القولُ الثابتُ الذي لا يتبدَّلُ كما أشارَ إليه تعالى بقوله: "لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ"، وقد جاء عن سيدنا المسيح عليه السلام قوله: "قولوا لي: أللعلمِ أم العملِ أعطانا اللهُ الشريعةَ؟ الحقَّ أقولُ لكم: إنَّ غايةَ كلِّ علمٍ هي تلكَ الحكمةُ"، فجميعُ الفرائضِ واجبةٌ ولازمةٌ لأهلِ الإيمانِ، لكنَّ معرفةَ الحقائقِ مُفتَرَضةٌ عليهم لأنَّ الأعمالَ لا يَقبَلُها اللهُ جلَّ جلالُهُ إلا من أهل الإيمانِ المُقرِّينَ بوجودِهِ، وقد تمَّ تغييبُ أهلُ التفويضِ والتقصيرِ عنها وكُلِّفوا بالحدودِ الشَّرعيةِ فقط لإنكارِهم، فَمَن تركَ الاعتقادَ بالحقائقِ فقد تَعَدَّى حَدًّا من حدودِ اللهِ، وَضَيَّعَ حقًّا من حقوقِهِ، فالمؤمنُ العلويُّ النصيريُّ الخصيبـيُّ العارفُ وَفَى بالعقودِ عندما أكَّدَ اعتقادَهُ بالحقائقِ معرفةً، ورفضَهُ الاكتفاءَ بالشرائعِ على سبيلِ التَّديُّنِ جهلاً، لذلك نجا بمعرفة باريه وكان من المتقين في قوله تعالى: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". /انتهى/
اجرى الحوار: محمد مظهري
تعليقك